فصل: تفسير الآيات رقم (148- 152)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏125- 128‏]‏

‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏125‏)‏ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏126‏)‏ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏127‏)‏ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏128‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏عَهِدْنَا‏}‏ معناه هنا‏:‏ أمرنا أو أوجبنا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَن طَهّرَا‏}‏ في موضع نصب بنزع الخافض، أي‏:‏ بأن طهراً قاله الكوفيون، وقال سيبويه‏:‏ هو‏:‏ بتقدير أي‏:‏ المفسرة‏:‏ أي‏:‏ أن طهراً، فلا موضع لها من الإعراب، والمراد بالتطهير قيل‏:‏ من الأوثان، وقيل من الآفات، والريب‏.‏ وقيل‏:‏ من الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ من النجاسات، وطواف الجنب، والحائض، وكل خبيث‏.‏ والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع، وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير، فهو يتناوله، إما تناولاً شمولياً أو بدلياً‏.‏ والإضافة في قوله‏:‏ ‏{‏بَيْتِىَ‏}‏ للتشريف والتكريم، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق، وأهل المدينة، وهشام، وحفص «بيتي» بفتح الياء، وقرأ الآخرون بإسكانها‏.‏ والطائف‏:‏ الذي يطوف به‏.‏ وقيل‏:‏ الغريب الطارئ على مكة‏.‏ والعاكف‏:‏ المقيم‏:‏ وأصل العكوف في اللغة‏:‏ اللزوم، والإقبال على الشيء، وقيل‏:‏ هو‏:‏ المجاور دون المقيم من أهلها، والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏والركع السجود‏}‏ المصلون، وخص هذين الركنين بالذكر؛ لأنهما أشرف أركان الصلاة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم‏}‏ ستأتي الأحاديث الدالة على أن إبراهيم هو الذي حرّم مكة، والأحاديث الدالة على أن الله حرّمها يوم خلق السموات والأرض، والجمع بين هذه الأحاديث في هذا البحث‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَلَدًا آمِنًا‏}‏ أي‏:‏ مكة، والمراد الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله‏:‏ ‏{‏عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 21‏]‏ أي‏:‏ راض صاحبها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ ءامَنَ‏}‏ بدل من قول أهلَه، أي‏:‏ ارزق من آمن من أهله دون من كفر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه ردّاً على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم، أي‏:‏ وارزق من كفر، فأمتعه بالرزق قليلاً، ثم أضطره إلى عذاب النار، ويحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً بياناً لحال من كفر، ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية، أي‏:‏ من كفر، فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق، ‏{‏ثُمَّ أَضْطَرُّهُ‏}‏ بعد هذا التمتيع ‏{‏إلى عَذَابِ النار‏}‏ فأخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتيعهم في هذه الدنيا، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شرّ محض، وهو‏:‏ عذاب النار؛ وأما على قراءة من قرأ‏:‏ ‏{‏فَأُمَتّعُهُ‏}‏ بصيغة الأمر، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَضْطَرُّهُ‏}‏ بصيغة الأمر، فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام إبراهيم، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلاً، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم إلى عذاب النار‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏أَضْطَرُّهُ‏}‏ ألزمه حتى صيره مضطراً لذلك لا يجد عنه مخلصاً، ولا منه متحوّلاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ‏}‏ هو‏:‏ حكاية لحال ماضية استحضاراً لصورتها العجيبة‏.‏ والقواعد‏:‏ الأساس، قاله أبو عبيدة والفراء‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هي الجدر‏.‏

والمراد برفعها رفع ما هو مبنيّ فوقها لا رفعها في نفسها، فإنها لم ترتفع، لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه، كما يقال ارتفع البناء، ولا يقال ارتفع أعالي البناء، ولا أسافله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا‏}‏ في محل الحال بتقدير القول، أي‏:‏ قائلين ربنا‏.‏ وقرأ أبيّ، وابن مسعود‏:‏ «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ويقولان ربنا تقبل منا»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏ أي‏:‏ اجعلنا ثابتين عليه، أو زدنا منه‏.‏ قيل‏:‏ المراد بالإسلام هنا مجموع الإيمان، والأعمال‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِنَا‏}‏ أي‏:‏ واجعل من ذريتنا، و«من» للتبعيض، أو للتبيين‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ إنه أراد بالذرية العرب خاصة، وكذا قال السهيلي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف؛ لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به‏.‏ والأمة‏:‏ الجماعة في هذا الموضع، وقد تطلق على الواحد، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏ وتطلق على الدين، ومنه‏:‏ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أمة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏ وتطلق على الزمان، ومنه ‏{‏وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏}‏ هي من الرؤية البصرية‏.‏ وقرأ عمر بن عبد العزيز، وقتادة، وابن كثير، وابن محيصن، وغيرهم‏:‏ «أرنا» بسكون الراء، ومنه قول الشاعر‏:‏

أرِنَا إدَاوةَ عَبْد الله يَمْلؤُهَا *** مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إنَّ القَوْمَ قَدْ ظَمِئواُ

والمناسك جمع نسك، وأصله في اللغة‏:‏ الغسل، يقال‏:‏ نسك ثوبه‏:‏ إذا غسله‏.‏ وهو في الشرع‏:‏ اسم للعبادة، والمراد هنا‏:‏ مناسك الحج‏.‏ وقيل مواضع الذبح‏.‏ وقيل‏:‏ جميع المتعبدات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَتُبْ عَلَيْنَا‏}‏ قيل‏:‏ المراد بطلبهما للتوبة‏:‏ التثبيت؛ لأنهما معصومان لا ذنب لهما‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ تب على الظلمة منا‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، عن عطاء قال‏:‏ ‏{‏وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم‏}‏ أي‏:‏ أمرناه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَن طَهّرَا بَيْتِىَ‏}‏ قال‏:‏ من الأوثان‏.‏ وأخرج أيضاً عن مجاهد، وسعيد بن جبير مثله، وزادوا الريب، وقول الزور، والرجس‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ إذا كان قائماً، فهو من الطائفين، وإذا كان جالساً، فهو من العاكفين، وإذا كان مصلياً، فهو من الركع السجود‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد فقال‏:‏ هم العاكفون‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن إبراهيم حرَّم مكة، وإني حرّمت المدينة ما بين لابَتَيْها، فلا يصاد صيدها، ولا يقطع عضاهها ‏"‏ كما أخرجه أحمد، ومسلم، والنسائي، وغيرهم من حديث جابر‏.‏ وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة، منهم رافع بن خديج عند مسلم، وغيره، ومنهم أبو قتادة عند أحمد، ومنهم أنس عند الشيخين، ومنهم أبو هريرة عند مسلم، ومنهم عليّ بن أبي طالب عند الطبراني في الأوسط، ومنهم أسامة بن زيد عند أحمد، والبخاري، ومنهم عائشة عند البخاري‏.‏

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن الله حرّم مكة يوم خلق السموات، والأرض، وهي حرام إلى يوم القيامة» أخرجه البخاري تعليقاً، وابن ماجه من حديث صفية بنت شيبة‏.‏ وأخرجه الشيخان، وغيرهما من حديث ابن عباس‏.‏ وأخرجه الشيخان، وأهل السنن من حديث أبي هريرة، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا، ولا تعارض بين هذه الأحاديث، فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرّمها، وأنها لم تزل حرماً، آمناً نسب إليه أنه حرّمها، أي أظهر للناس حكم الله فيها، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية، وابن كثير‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ إنها كانت حراماً، ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم، فحرّمها، وتعبَّدهم بذلك‏.‏ انتهى‏.‏ وكلا الجمعين حسن‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن محمد بن مسلم الطائفي قال‏:‏ بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم فقال‏:‏ ‏{‏وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات‏}‏ نقل الله الطائف من فلسطين‏.‏ وأخرج نحوه ابن أبي حاتم، والأزرقي، عن الزهري‏.‏ وأخرج نحوه أيضاً الأزرقي عن بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم‏.‏ وقد أخرج الأزرقي نحوها مرفوعاً من طريق محمد بن المنكدر‏.‏ وأخرج أيضاً عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ دعا إبراهيم للمؤمنين، وترك الكفار، ولم يدع لهم بشيء، قال الله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج نحوه سفيان بن عيينة، عن مجاهد‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ ءامَنَ بالله‏}‏ قال‏:‏ كأنّ إبراهيم احتجرها على المؤمنين دون الناس‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ أيضاً فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أخلق خلقاً لا أرزقهم‏؟‏ أمتعهم قليلاً، ثم أضطرهم إلى عذاب النار، ثم قرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال‏:‏ قال أبَيّ بن كعب في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ أن هذا من قول الربّ‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هذا من قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر، فأمتعه قليلاً‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ القواعد أساس البيت، وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وغيرهم عن سعيد بن جبير ‏[‏عن ابن عباس‏]‏، قصة مطوّلة، وآخرها في بناء البيت‏.‏ قال‏:‏ فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم‏}‏‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد‏}‏ قال‏:‏ القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك‏.‏ وقد أكثر المفسرون في تفسير هذه الآية من نقل أقوال السلف في كيفية بناء البيت، ومن أي أحجار الأرض بني، وفي أي زمان عرف، ومن حجه‏؟‏ وما ورد فيه من الأدلة الدالة على فضله، أو فضل بعضه كالحجر الأسود‏.‏ وفي الدرّ المنثور من ذلك مالم يكن في غيره، فليرجع إليه، وفي تفسير ابن كثير بعض من ذلك، ولما لم يكن ما ذكروه متعلقاً بالتفسير لم نذكره‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ‏}‏ قال‏:‏ كانا مسلمين، ولكن سألاه الثبات‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم، قال‏:‏ مخلصين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِنَا‏}‏ قال‏:‏ يعنيان العرب‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ قال إبراهيم‏:‏ ربّ، أرنا مناسكنا، فأتاه جبريل، فأتى به البيت، فقال‏:‏ ارفع القواعد، فرفع القواعد، وأتمّ البنيان، ثم أخذ بيده، فأخرجه، فانطلق به نحو مِنىً، فلما كان عند العتبة، فإذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال‏:‏ كبر وارمه، فكبر ورماه، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة الوسطى، ففعل به إبراهيم كما فعل في الأولى، ثم كذلك في الجمرة الثالثة، ثم أخذ جبريل بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال‏:‏ هذا المشعر الحرام، ثم ذهب حتى أتى به عرفات، قال‏:‏ وقد عرفت ما أريتك‏؟‏ قالها ثلاثاً، قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فأذِّن في الناس بالحج، قال‏:‏ وكيف أؤذن‏؟‏ قال‏:‏ قل‏:‏ ياأيها الناس، أجيبوا ربكم ثلاث مرات، فأجاب العباد‏:‏ لبيك اللهم لبيك، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق، فهو حاجّ‏.‏ وأخرج ابن جرير من طريق ابن المسيب، عن عليّ؛ قال‏:‏ لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال‏:‏ قد فعلت أي ربّ، فأرنا مناسكنا‏:‏ أبرزها لنا عَلِّمْنَاها، فبعث الله جبريل، فحجّ به‏.‏ وفي الباب آثار كثيرة عن السلف من الصحابة، ومن بعدهم تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك، وفي أكثرها أن الشيطان تعرّض له كما تقدّم عن مجاهد‏.‏ وقد أخرج ابن خزيمة، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس نحو ذلك، وكذلك أخرج عنه أحمد، وابن أبي حاتم، والبيهقي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏129- 132‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏129‏)‏ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏130‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏131‏)‏ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وابعث فِيهِمْ‏}‏ راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقاً‏.‏ وقرأ أبيّ‏:‏ «وابعث في آخرهم» ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الذرية‏.‏ وقد أجاب الله لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة، فبعث في ذريته ‏{‏رَسُولاً مّنْهُمْ‏}‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد أخبر عن نفسه بأنه دعوة إبراهيم كما سيأتي تخريج ذلك إن شاء الله، ومراده هذه الدعوة‏.‏ والرسول هو‏:‏ المرسل‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ يشبه أن يكون أصله ناقة مرسال، ورسلة إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق‏.‏ ويقال جاء القوم أرسالاً، أي‏:‏ بعضهم في أثر بعض، والمراد بالكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ والمراد بالحكمة‏:‏ المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم للشريعة، وقوله‏:‏ ‏{‏يُزَكّيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يطهرهم من الشرك، وسائر المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بالآيات ظاهر الألفاظ، والكتاب معانيها، والحكمة‏:‏ الحكم، وهو‏:‏ مراد الله بالخطاب، والعزيز‏:‏ الذي لا يعجزه شيء قاله ابن كيسان‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ العزيز الغالب‏.‏

‏{‏وَمَن يَرْغَبُ‏}‏ في موضع رفع على الابتداء، والاستفهام للإنكار‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ في موضع الخبر‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ بدل من فاعل يرغب، والتقدير‏:‏ وما يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا من سفه نفسه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ سفه بمعنى جهل، أي‏:‏ جهل أمر نفسه، فلم يفكر فيها‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ المعنى أهلك نفسه‏.‏ وحكى ثعلب، والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفَّه بفتح الفاء مشدّدة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ‏{‏سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ أي‏:‏ فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً، وقيل‏:‏ إن نفسه منتصب بنزع الخافض‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ تمييز، وهذان ضعيفان جداً، وأما سفُه بضم الفاء، فلا يتعدى قاله المبرد، وثعلب‏.‏ والاصطفاء‏:‏ الاختيار، أي‏:‏ اخترناه في الدنيا، وجعلناه في الآخرة من الصالحين، فكيف يرغب عن ملته راغب‏؟‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لَهُ‏}‏ يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏اصطفيناه‏}‏ أي‏:‏ اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو‏:‏ اذكر‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ كأنه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏ووصى بِهَا‏}‏ راجع إلى الملة أو إلى الكلمة‏:‏ أي‏:‏ أسلمت لربّ العالمين‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وهو أصوب؛ لأنه أقرب مذكور، أي‏:‏ قولوا أسلمنا‏.‏ انتهى‏.‏ والأوّل أرجح؛ لأن المطلوب ممن بعده هو‏:‏ إتباع ملته لا مجرد التكلم بكلمة الإسلام، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم، وأولى بهم‏.‏ ووصى وأوصى بمعنى، وقرئ بهما، وفي مصحف عثمان‏:‏ ‏{‏وأوصى‏}‏ وهي قراءة أهل الشام، والمدينة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود ‏{‏ووصى‏}‏ وهي قراءة الباقين‏.‏ ‏{‏وَيَعْقُوبَ‏}‏ معطوف على إبراهيم أي‏:‏ وأوصى يعقوب بنيه كما أوصى إبراهيم بنيه‏.‏ وقرأ عمر بن فايد الأسواري، وإسماعيل ابن عبد الله المكي، بنصب يعقوب، فيكون داخلاً فيمن أوصاه إبراهيم‏.‏

قال القشيري‏:‏ وهو بعيد، لأن يعقوب لم يدرك جدّه إبراهيم، وإنما ولد بعد موته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يا بني‏}‏ هو بتقدير «أن»‏.‏ وقد قرأ أبيّ، وابن مسعود، والضحاك بإثباتها‏.‏ قال الفراء‏:‏ ألغيت «أن»، لأن التوصية كالقول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول «أن» وجاز فيه إلغاؤها‏.‏ وقيل‏:‏ إنه على تقدير القول أي قائلاً‏:‏ يا بنيّ‏.‏ روى ذلك عن البصريين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏اصطفى لَكُمُ الدين‏}‏ أي‏:‏ اختاره لكم، والمراد‏:‏ ملته التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه، وهي الملة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ فيه إيجاز بليغ‏.‏ والمراد‏:‏ الزموا الإسلام، ولا تفارقوه حتى تموتوا‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم‏}‏ قال‏:‏ رغبت اليهود والنصارى عن ملته، واتخذوا اليهودية، والنصرانية بدعة ليست من الله؛ تركوا ملة إبراهيم الإسلام، وبذلك بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اصطفياه‏}‏ قال‏:‏ اخترناه‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ‏}‏ قال‏:‏ وصاهم بالإسلام، ووصى يعقوب بنيه بمثل ذلك‏.‏ وأخرج الثعلبي، عن فضيل بن عياض في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ محسنون بربكم الظنّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 141‏]‏

‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏133‏)‏ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏134‏)‏ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏135‏)‏ قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏136‏)‏ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏137‏)‏ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ‏(‏138‏)‏ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ‏(‏139‏)‏ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏140‏)‏ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء‏}‏ أم هذه قيل‏:‏ هي المنقطعة‏.‏ وقيل‏:‏ هي المتصلة‏.‏ وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع، والتوبيخ، والخطاب لليهود، والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم، وإلى بنيه أنهم على اليهودية، والنصرانية، فردّ الله ذلك عليهم، وقال لهم‏:‏ أشهدتم يعقوب، وعلمتم بما أوصى به بنيه، فتدّعون ذلك عن علم، أم لم تشهدوا بل أنتم مفترون‏.‏ والشهداء‏:‏ جمع شاهد، ولم ينصرف؛ لأن فيه ألف التأنيث التي لتأنيث الجماعة، والعامل في ‏{‏إذ‏}‏ الأولى معنى الشهادة، و‏{‏إذ‏}‏ الثانية بدل من الأولى، والمراد بحضور الموت‏:‏ حضور مقدماته‏.‏ وإنما جاء بما دون مَنْ في قوله‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ لأن المعبودات من دون الله غالبها جمادات كالأوثان، والنار، والشمس، والكواكب، ومعنى‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِى‏}‏ أي من بعد موتي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‏}‏ عطف بيان لقوله‏:‏ ‏{‏آبَائِكَ‏}‏ وإسماعيل، وإن كان عماً ليعقوب؛ لأن العرب تسمى العمّ أباً، وقوله‏:‏ ‏{‏إلها‏}‏ بدل من إلهك، وإن كان نكرة، فذلك جائز، ولا سيما بعد تخصيصه بالصفة التي هي قوله‏:‏ ‏{‏واحدا‏}‏ فإنه قد حصل المطلوب من الإبدال بهذه الصفة‏.‏ وقيل إن إلهاً منصوب على الاختصاص، وقيل إنه حال‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو قول حسن؛ لأن الغرض الإثبات حال الوحدانية‏.‏ وقرأ الحسن، ويحيى بن يعمر، وأبو رجاء العطاردي‏:‏ «وإله أبيك» فقيل أراد إبراهيم وحده‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏وإسماعيل‏}‏ عطفاً على أبيك، وكذلك ‏{‏إسحاق‏}‏ وإن كان هو أباه حقيقة، وإبراهيم جدّه، ولكن لإبراهيم مزيد خصوصية، وقيل إن قوله‏:‏ «أبيك» جمع كما روى عن سيبويه أن أبين جمع سلامة، ومثله أبون، ومنه قول الشاعر‏:‏

فلما تَبَيَّن أصواتنا *** بكيْنَ وقد بننا بالأبينا

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ جملة حالية‏:‏ أي‏:‏ نعبده حال إسلامنا له، وجوَّز الزمخشري أن تكون اعتراضية على ما يذهب إليه من جواز وقوع الجمل الاعتراضية آخر الكلام‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ‏}‏ إلى إبراهيم، وبنيه، ويعقوب، وبنيه، و‏{‏أُمَّةٌ‏}‏ بدل منه، وخبره ‏{‏قَدْ خَلَتْ‏}‏ أو أمة خبره، وقد خلت نعت لأمة، وقوله‏:‏ ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ بيان لحال تلك الأمة، وحال المخاطبين بأن لكل من الفريقين كسبه، لا ينفعه كسب غيره، ولا يناله منه شيء، ولا يضرّه ذنب غيره، وفيه الردّ على من يتكل على عمل سلفه، ويُرَوِّح نفسه بالأماني الباطلة، ومنه ما ورد في الحديث‏:‏ ‏"‏ من بطأ به عمله لم يسرع نسبه ‏"‏ والمراد‏:‏ أنكم لا تنتفعون بحسناتهم، ولا تؤاخَذون بسيئاتهم، ولا تُسألون عن أعمالهم، كما لا يُسْألَون عن أعمالكم، ومثله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏

‏{‏وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏‏.‏

ولما ادّعت اليهود، والنصارى أن الهداية بيدها، والخير مقصور عليها ردّ الله ذلك عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ مِلَّةَ إبراهيم‏}‏ أي‏:‏ قل يا محمد هذه المقالة، ونصب ‏{‏ملة‏}‏ بفعل مقدر، أي‏:‏ نتبع‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ نكون ملة إبراهيم، أي‏:‏ أهل ملته‏.‏ وقيل‏:‏ بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوباً‏.‏ وقرأ الأعرج، وابن أبي عبلة‏:‏ «ملة» بالرفع‏:‏ أي‏:‏ بل الهدى ملة إبراهيم‏.‏ والحنيف‏:‏ المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وهو في أصل اللغة‏:‏ الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها‏.‏ قال الزجاج، وهو منصوب على الحال، أي نتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفاً‏.‏ وقال عليّ بن سليمان‏:‏ هو منصوب بتقدير أعني، والحال خطأ كما لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ هو حال من المضاف إليه كقولك‏:‏ رأيت وجه هند قائمة، وقال قوم‏:‏ الحنف الاستقامة، فسمى دين إبراهيم حنيفاً لاستقامته، وسمي معوج الرجلين أحنف؛ تفاؤلاً بالاستقامة، كما قيل للدَّيغ‏:‏ سليم، وللمهلكة‏:‏ مفازة‏.‏ وقد استدل من قال بأن الحنيف في اللغة المائل لا المستقيم بقول الشاعر‏:‏

إذا حوّل الظل العشى رأيته *** حنيفاً ومن قَرْن الضمن يَتَضّرُ

أي‏:‏ إن الحرباء تستقبل القبلة بالعشيّ، وتستقبل المشرق بالغداة، وهي قبلة النصارى، ومنه قول الشاعر‏:‏

والله لولا حَنَف في رِجْلهِ *** مَا كَانَ في رجِالكم من مِثْلِه

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ مِنَ المشركين‏}‏ فيه تعريض باليهود لقولهم‏:‏ ‏{‏عُزَيْرٌ ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ وبالنصارى لقولهم‏:‏ ‏{‏المسيح ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ أي‏:‏ أن إبراهيم ما كان على هذه الحالة التي أنتم عليها من الشرك بالله، فكيف تدّعون عليه أنه كان على اليهودية، أو النصرانية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُولُواْ ءَامَنَّا بالله‏}‏ خطاب للمسلمين، وأمر لهم بأن يقولوا هذه المقالة، وقيل إنه خطاب للكفار بأن يقولوا ذلك، حتى يكونوا على الحق، والأول أظهر‏.‏ والأسباط‏:‏ أولاد يعقوب، وهم اثنا عشر ولداً، ولكل واحد منهم من الأولاد جماعة، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب، وسموا الأسباط من السبط، وهو‏:‏ التتابع، فهم جماعة متتابعون، وقيل‏:‏ أصله من السبط بالتحريك، وهو الشجر، أي‏:‏ هم في الكثرة بمنزلة الشجر، وقيل‏:‏ الأسباط‏:‏ حفدة يعقوب‏:‏ أي‏:‏ أولاد أولاده لا أولاده؛ لأن الكثرة إنما كانت فيهم دون أولاد يعقوب في نفسه، فهم أفراد لا أسباط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ‏}‏ قال الفراء‏:‏ معناه لا نؤمن ببعضهم، ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود، والنصارى‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ وأحد في معنى الجماعة، ولذلك صح دخول بين عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ‏}‏ هذا الخطاب للمسلمين أيضاً‏:‏ أي‏:‏ فإن آمن أهل الكتاب، وغيرهم بمثل ما آمنتم به من جميع كتب الله ورسله، ولم يفرّقوا بين أحد منهم، فقد اهتدوا، وعلى هذا، فمثل زائدة كقوله‏:‏

‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ وقول الشاعر‏:‏

فصيروا مثل كعصف مأكول *** وقيل‏:‏ إن المماثلة وقعت بين الإيمانين، أي‏:‏ فإن آمنوا بمثل إيمانكم‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إنه من باب التبكيت؛ لأن دين الحق واحد لا مثل له، وهو‏:‏ دين الإسلام، قال‏:‏ أي‏:‏ فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة، والسداد، فقد اهتدوا، وقيل إن الباء زائدة مؤكدة‏.‏ وقيل إنها للاستعانة‏.‏ والشقاق أصله من الشق، وهو‏:‏ الجانب، كأنّ كل واحد من الفريقين في جانب غير الجانب الذي فيه الآخر‏.‏ وقيل إنه مأخوذ من فعل ما يشقّ، ويصعب، فكل واحد من الفريقين يحرص على فعل ما يشق على صاحبه، ويصح حمل الآية على كل واحد من المعنيين، وكذلك قول الشاعر‏:‏

وإلا فَاعْلَمُوا أنَّا وَأنتُمْ *** بُغاةٌ ما بقينا في شِقَاقِ

وقوله الآخر‏:‏

إلى كَمْ تَقتُل العُلَماءَ قَسْراً *** وتَفخَرُ بِالشِقَاقِ وَبالِنفَاقِ

وقوله‏:‏ ‏{‏فسيكفيكهم الله‏}‏ وعد من الله تعالى لنبيه أنه سيكفيه من عانده، وخالفه من المتولِّين، وقد أنجز له وعده بما أنزله من بأسه بقريظة، والنضير، وبني قينقاع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ الله‏}‏ قال الأخفش، وغيره أي‏:‏ دين الله، قال‏:‏ وهي‏:‏ منتصبة على البدل من ملة‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هي‏:‏ منصوبة على تقدير اتبعوا، أو على الإغراء، أي‏:‏ الزموا، ورجح الزجاج الانتصاب على البدل من ملة، كما قاله الفراء‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إنها مصدر مؤكد منتصب عن قوله‏:‏ ‏{‏بالله آمنا‏}‏ كما انتصب و‏{‏عَبْدُ الله‏}‏ عما تقدّمه، وهي فعلة من صبغ كالجلسة من جلس، وهي‏:‏ الحالة التي يقع عليها الصبغ، والمعنى تطهير الله، لأن الإيمان تطهير النفوس‏.‏ انتهى‏.‏ وبه قال سيبويه، أي‏:‏ كونه مصدراً موكّداً‏.‏ وقد ذكر المفسرون أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية، ويجعلون ذلك تطهيراً لهم، فإذا فعلوا ذلك قالوا‏:‏ الآن صار نصرانياً حقاً، فردّ الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ الله‏}‏ أي‏:‏ الإسلام، وسماه صبغة استعارة، ومنه قول بعض شعراء همدان‏:‏

وكلُّ أناس لهم صبِغْةٌ *** وَصِبغةُ همدان خير الصِبَغْ

صبغنا على ذاك أولادنا *** فأكرم بصبغتنا في الصبغ

وقيل‏:‏ إن الصبغة‏:‏ الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام بدلاً من معمودية النصارى، ذكره الماوردي‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ صبغة الله‏:‏ دينه‏.‏ وهو‏:‏ يؤيد ما تقدم عن الفراء‏.‏ وقيل‏:‏ الصبغة‏:‏ الختان‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ أتجادلوننا في الله‏:‏ أي‏:‏ في دينه، والقرب منه، والحظوة عنده، وذلك كقولهم ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ «أتحاجونا» بالإدغام لاجتماع المثلين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ نشترك نحن، وأنتم في ربوبيته لنا وعبوديتنا له، فكيف تدّعون أنكم أولى به منا وتحاجوننا في ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم‏}‏ أي‏:‏ لنا أعمال، ولكم أعمال، فلستم بأولى بالله منا، وهو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ‏}‏ أي‏:‏ نحن أهل الإخلاص للعبادة دونكم، وهو‏:‏ المعيار الذي يكون به التفاضل، والخصلة التي يكون صاحبها أولى بالله سبحانه من غيره، فكيف تدّعون لأنفسكم ما نحن أولى به منكم، وأحق‏؟‏ وفيه توبيخ لهم، وقطع لما جاءوا به من المجادلة، والمناظرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏تقولون‏}‏ بالتاء الفوقية، وعلى هذه القراءة تكون «أم» هاهنا معادلة للهمزة في قوله‏:‏ ‏{‏أَتُحَاجُّونَنَا‏}‏ أي‏:‏ أتحاجوننا في الله أم تقولون إن هؤلاء الأنبياء على دينكم، وعلى قراءة الياء التحتية تكون أم منقطعة، أي‏:‏ بل يقولون‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله‏}‏ فيه تقريع، وتوبيخ‏:‏ أي‏:‏ أن الله أخبرنا بأنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى، وأنتم تدّعون أنهم كانوا هوداً أو نصارى، فهل أنتم أعلم أم الله سبحانه‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ‏}‏ استفهام‏:‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم‏:‏ ‏{‏مِمَّنْ كَتَمَ شهادة عِندَهُ مِنَ الله‏}‏ يحتمل أن يريد بذلك الذمّ لأهل الكتاب، بأنهم يعلمون أن هؤلاء الأنبياء ما كانوا هوداً، ولا نصارى، بل كانوا على الملة الإسلامية، فظلموا أنفسهم بكتمهم لهذه الشهادة بل بادّعائهم لما هو مخالف لها، وهو أشدّ في الذنب ممن اقتصر على مجرد الكتم الذي لا أحد أظلم منه، ويحتمل أن المراد أن المسلمين لو كتموا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منهم، ويكون المراد بذلك التعريض بأهل الكتاب،

وقيل المراد هنا ما كتموه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ وعيد شديد، وتهديد ليس عليه مزيد، وإعلام بأن الله سبحانه لا يترك عقوبتهم على هذا الظلم القبيح، والذنب الفظيع، وكرّر قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ‏}‏ إلى آخر الآية لتضمنها معنى التهديد، والتخويف الذي هو المقصود في هذا المقام‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء‏}‏ يعني أهل الكتاب‏.‏ وأخرج أيضاً عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء‏}‏ قال‏:‏ يقول لم يشهد اليهود، ولا النصارى، ولا أحد من الناس يعقوب إذ أخذ على بنيه الميثاق إذ حضره الموت أن لا تعبدوا إلا الله، فأقرّوا بذلك، وشهد عليهم أن قد أقرّوا بعبادتهم أنهم مسلمون‏.‏ وأخرج عن ابن عباس أنه كان يقول‏:‏ الجدّ أب، ويتلو الآية‏.‏ وأخرج أيضاً عن أبي العالية في الآية قال‏:‏ سمي العمّ أباً‏.‏ وأخرج أيضاً نحوه عن محمد بن كعب‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ قال عبد الله بن صوريا الأعور للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ قال‏:‏ متبعاً‏.‏ وأخرجا أيضاً، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ قال‏:‏ حاجاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب قال‏:‏ الحنيف المستقيم‏.‏ وأخرج أيضاً، عن خصيف قال‏:‏ الحنيف المخلص‏.‏ وأخرج أيضاً عن أبي قلابة قال‏:‏ الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أوّلهم إلى آخرهم‏.‏ وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بعثت بالحنيفية السمحة ‏"‏ وأخرج أحمد أيضاً، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، عن ابن عباس قال‏:‏ «قيل يا رسول الله أيّ الأديان أحب إلى الله‏؟‏ قال‏:‏ الحنيفية السمحة»‏.‏ وأخرج الحاكم في تاريخه، وابن عساكر، من حديث أسعد بن عبد الله بن مالك الخزاعي مرفوعاً مثله‏.‏

وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما الآية التي في البقرة‏:‏ ‏{‏قُولُواْ ءامَنَّا بالله‏}‏ كلها وفي الآخرة ‏{‏آمنا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال‏:‏ كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، ‏"‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ الأسباط بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلاً كل واحد منهم ولد أمة من الناس‏.‏ وروى نحوه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي، وحكاه ابن كثير في تفسيره عن أبي العالية، والربيع، وقتادة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال‏:‏ لا تقولوا، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، فإن الله لا مثل له، ولكن قولوا، فإن آمنوا بالذي آمنتم به، وأخرج ابن أبي داود، في المصاحف، والخطيب في تاريخه عن أبي جمرة قال‏:‏ كان ابن عباس يقرأ‏:‏ ‏"‏ فإن آمنوا بالذي آمنتم به ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ‏}‏ قال فراق‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ الله‏}‏ قال‏:‏ دين الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال‏:‏ فطرة الله التي فطر الناس عليها‏.‏ وأخرج ابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«إن بني إسرائيل قالوا يا موسى هل يصبغ ربك‏؟‏ فقال‏:‏ اتقوا الله، فناداه ربه‏:‏ يا موسى، سألوك هل يصبغ ربك‏؟‏ فقل‏:‏ نعم‏.‏ أنا أصبغ الألوان، الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها في صبغتي» وأنزل الله على نبيه‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً‏}‏‏.‏ وأخرجه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، عن ابن عباس موقوفاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة؛ قال‏:‏ إن اليهود تصبغ أبناءها يهوداً، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى، وإن صبغة الله الإسلام، ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام، ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحاً، ومن كان بعده من الأنبياء‏.‏ وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ الله‏}‏ قال‏:‏ البياض‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَتُحَاجُّونَنَا‏}‏ قال‏:‏ أتخاصموننا‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه قال‏:‏ أتجادلوننا‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شهادة‏}‏ الآية قال‏:‏ أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام، وهم يعلمون أنه دين الله، واتخذوا اليهودية، والنصرانية، وكتموا محمداً، وهم يعلمون أنه رسول الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الحسن نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة، والربيع في قوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ‏}‏ قال يعني إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 143‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏142‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏143‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ‏}‏ هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، بأن السفهاء من اليهود، والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة‏.‏ وقيل إن‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ‏}‏ بمعنى‏:‏ قال، وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته، واستمرار عليه، وقيل‏:‏ إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة، وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهوين لصدمته، وتخفيف لروعته، وكسراً لسَوْرته‏.‏ والسفهاء‏:‏ جمع سفيه، وهو‏:‏ الكذَّاب البَهَّات المعتقد خلاف ما يعلم، كذا قال بعض أهل اللغة‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ هم خفاف الأحلام، ومثله في القاموس‏.‏ وقد تقدّم في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130‏]‏ ما ينبغي الرجوع إليه، ومعنى‏:‏ ‏{‏مَا ولاهم‏}‏ ما صرفهم ‏{‏عَن قِبْلَتِهِمُ التى كَانُواْ عَلَيْهَا‏}‏ وهي بيت المقدس‏.‏ فردّ الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب‏}‏ فله أن يأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَهْدِى مَن يَشَآء‏}‏ إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأهل ملته إلى الصراط المستقيم

وقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الجعل جعلناكم، قيل معناه‏:‏ وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا‏.‏ والوسط الخيار، أو العدل، والآية محتملة للأمرين، ومما يحتملهما قول زهير‏:‏

هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأنَامُ بِحُكْمِهِم *** إذَا نَزَلت إحْدَى الليالِي بِمُعْظِم

ومثله قول الآخر‏:‏

أنْتُم أوْسطُ حَيٍّ علِمُوا *** بِصَغِير الأمْرِ أو إحْدى الكُبرَ

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الوسط هنا بالعدل كما سيأتي، فوجب الرجوع إلى ذلك، ومنه قول الراجز‏:‏

لا تذهبنَّ في الأمور مفرطا *** لا تسألنّ إن سألتَ شطَطَا

وكن مِن النَّاسِ جميعاً وسَطَاً ***

ولما كان الوسط مجانباً للغلو، والتقصير كان محموداً، أي‏:‏ هذه الأمة لم تغلُ غلوّ النصارى في عيسى، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، ويقال‏:‏ فلان أوسط قومه وواسطتهم‏:‏ أي‏:‏ خيارهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة تشهدون للأنبياء على أممهم، أنهم قد بلَّغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم، ويكون الرسول شهيداً على أمته بأنهم قد فعلوا ما أمر بتبليغه إليهم، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏، قيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني لكم، أي‏:‏ يشهد لهم بالإيمان‏.‏ وقيل معناه‏:‏ يشهد عليكم بالتبليغ لكم‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 9‏]‏ ‏{‏كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏

‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏‏.‏ انتهى‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ معنى الآية‏:‏ يشهد بعضكم على بعض بعد الموت‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول، وسيأتي من المرفوع ما يبين معنى الآية إن شاء الله‏.‏ وإنما أخر لفظ «على» في شهادة الأمة على الناس، وقدّمها في شهادة الرسول عليهم، لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأوّل‏:‏ إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا‏}‏ قيل المراد بهذه القبلة‏:‏ هي بيت المقدس، أي‏:‏ ما جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب، ويؤيد هذا قوله‏:‏ ‏{‏كُنتَ عَلَيْهَا‏}‏ إذا كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة إلى الكعبة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ الكعبة، أي‏:‏ ما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض، ويكون ‏{‏كُنتُ‏}‏ بمعنى الحال، وقيل المراد بذلك القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس، فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة، ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تألفاً لليهود، ثم صُرِف إلى الكعبة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِنَعْلَمَ‏}‏ قيل المراد بالعلم هنا الرؤية، وقيل‏:‏ المراد إلا لتعلموا أنا نعلم بأن المنافقين كانوا في شك، وقيل‏:‏ ليعلم النبي؛ وقيل‏:‏ المراد لنعلم ذلك موجوداً حاصلاً، وهكذا ما ورد معللاً بعلم الله سبحانه لا بدّ أن يؤول بمثل هذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً‏}‏ أي‏:‏ ما كانت إلا كبيرة، كما قاله الفراء في ‏"‏ أن ‏"‏ و‏"‏ إن ‏"‏ أنهما بمعنى ما وإلا‏.‏ وقال البصريون‏:‏ هي‏:‏ الثقيلة خففت، والضمير في كانت راجع إلى ما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا‏}‏ من التحويلة، أو التولية، أو الجعلة، أو الردّة، ذكر معنى ذلك الأخفش، ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة‏:‏ أي‏:‏ وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان، فانشرحت صدورهم لتصديقك، وقبلت ما جئت به عقولهم‏.‏ وهذا الاستثناء مفرّغ، لأن ما قبله في قوّة النفي، أي‏:‏ أنها لا تخفّ، ولا تسهل إلا على الذين هدى الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم‏}‏ قال القرطبي‏:‏ اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات، وهو يصلي إلى بيت المقدس، ثم قال‏:‏ فسمى الصلاة إيماناً؛ لاجتماعها على نية، وقول، وعمل، وقيل‏:‏ المراد ثبات المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة، وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم‏.‏ والأول يتعين القول به، والمصير إليه لما سيأتي من تفسيره صلى الله عليه وسلم للآية بذلك‏.‏ والرءوف كثير الرأفة، وهي أشدّ من الرحمة‏.‏ قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ الرأفة أكبر من الرحمة، والمعنى متقارب‏.‏

وقرأ أبو جعفر بن يزيد بن القعقاع‏:‏ «لروف» بغير همز، وهي‏:‏ لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عتبة‏:‏

وَشَرُّ الغالبين فلا تَكُنْه *** يقَاتِلِ عمه الروف الرحِيم

وقد أخرج البخاري ومسلم، وغيرهما عن البراء؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوّل ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأن أوّل صلاة صلاها العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد، وهم راكعون فقال‏:‏ أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال، وقتلوا، فلم ندر ما يقول فيهم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم إِنَّ الله بالناس لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ وله طرق أخر، وألفاظ متقاربة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس؛ قال‏:‏ إن أوّل ما نسخ في القرآن القبلة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود في ناسخه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه، وبعد ما تحوّل إلى المدينة ستة عشر شهراً، ثم صرفه الله إلى الكعبة‏.‏ وفي الباب أحاديث كثيرة بمضمون ما تقدّم‏.‏ وكذلك وردت أحاديث في الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة، وفي كيفية استدارة المصلين لما بلغهم ذلك، وقد كانوا في الصلاة، فلا نطوّل بذكرها‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والنسائي، والترمذي وصححه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والإسماعيلي في صحيحه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ قال‏:‏ عدلاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن أبي سعيد؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له‏:‏ هل بلغت‏؟‏ فيقول نعم، فيدعى قومه، فيقال لهم‏:‏ هل بلغكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح‏:‏ من يشهد لك‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد وأمته فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ قال‏:‏ والوسط العدل، فتُدْعَون، فَتَشْهَدون له بالبلاغ، وأشهد عليكم‏.‏ ‏"‏ وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي سعيد نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أنا وأمتي يوم القيامة على كَوْم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منا، وما من نبيّ كذبه قومه إلا، ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه»

وأخرج ابن جرير، عن أبي سعيد في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ بأن الرسل قد بلغوا‏:‏ ‏{‏وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ بما عملتم، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن أنس قال مرّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وجبت وجبت وجببت» ومرّوا بجنازة فأثنى عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وجبت وجبت وجبت» فسأله عمر فقال‏:‏ «من أثنيتم عليه خيراً، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرّاً، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض» زاد الحكيم الترمذي‏:‏ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ الآية، وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند ابن المنذر، والحاكم وصححه، ومنها عن عمر مرفوعاً عند ابن أبي شيبة وأحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، ومنها عن أبي زهير الثقفي مرفوعاً عند أحمد وابن ماجه والطبراني، والدارقطني في الإفراد، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن، ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً عند ابن جرير، وابن أبي حاتم، ومنها عن سلمة بن الأكوع مرفوعاً عند ابن أبي شيبة، وابن جرير، والطبراني‏.‏

وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا‏}‏ قال‏:‏ يعني بيت المقدس ‏{‏إلا لنعلم‏}‏ قال نبتليهم لنعلم من يسلم لأمره‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِنَعْلَمَ‏}‏ قال لنميز أهل اليقين من أهل الشك ‏{‏وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً‏}‏ يعني تحويلها على أهل الشرك، والريب‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال‏:‏ بلغني أن ناساً ممن أسلم رجعوا، فقالوا مرة ها هنا، ومرة ها هنا‏.‏ وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حبان، والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن عباس، قال‏:‏ لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، قالوا‏:‏ يا رسول الله، فكيف بالذين ماتوا، وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم‏}‏‏.‏ وقد تقدّم حديث البراء‏.‏ وفي الباب أحاديث كثيرة، وآثار عن السلف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 147‏]‏

‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏144‏)‏ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏145‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏146‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ‏}‏ قال القرطبي في تفسيره‏:‏ قال العلماء‏:‏ هذه الآية مقدّمة في النزول على قوله‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السفهاء‏}‏، ومعنى‏:‏ ‏{‏قَدْ‏}‏ تكثير الرؤية، كما قاله صاحب الكشاف، ومعنى‏:‏ ‏{‏تَقَلُّبَ وَجْهِكَ‏}‏ تحوّل وجهك إلى السماء، قاله قطرب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَنُوَلّيَنَّكَ‏}‏ هو إما من الولاية، أي‏:‏ فلنعطينك ذلك، أو من التولي، أي‏:‏ فلنجعلنك متولياً إلى جهتها، وهذا أولى لقوله‏:‏ ‏{‏فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام‏}‏‏.‏ والمراد بالشطر هنا‏:‏ الناحية والجهة، وهو منتصب على الظرفية ومنه قول الشاعر‏:‏

أقول لأم زِنْبَاعٍ أقيِمي *** صدُورَ العِيسِ شَطْرَ بني تَميم

ومنه أيضاً قول الآخر‏:‏

ألا مَنْ مُبْلغ عمراً رَسُولا *** وَمَا تُغْنِي الرِسَالةُ شَطْرَ عمرو

وقد يراد بالشطر النصف، ومنه «الوضوء شطر الإيمان»، ومنه قول عنترة‏:‏

إني امرؤ مِنْ خَيرِ عَبْس منصباً *** شَطِري وَأحْمِي سَائِري بِالمْنصَلِ

قال ذلك؛ لأن أباه من سادات عبس، وأمّه أمَة، ويرد معنى البعض مطلقاً‏.‏ ولا خلاف أن المراد بشطر المسجد هنا‏:‏ الكعبة، وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية، ويستدل على ذلك بما يمكنه الاستدلال به، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ الحق‏}‏ راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحويل إلى جهة الكعبة، وعلم أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن أنبيائهم، أو وجدوا في كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبيّ يستقبل الكعبة، أو لكونهم قد علموا من أنبيائهم، أو كتبهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة، فيكون ذلك موجباً عليهم الدخول في الإسلام، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ قد تقدّم معناه‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي ‏"‏ تعملون ‏"‏ بالمثناة الفوقية على مخاطبة أهل الكتاب، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ الباقون بالياء التحتية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَتَيْتَ‏}‏ هذه اللام هي موطئة للقسم، والتقدير‏:‏ والله لئن أتيت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَّا تَبِعُواْ‏}‏ جواب القسم المقدّر‏.‏ قال الأخفش والفراء‏:‏ أجيب ‏"‏ لئن ‏"‏ بجواب و‏"‏ لو ‏"‏ لأن المعنى‏:‏ ولو أتيت، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 51‏]‏ أي‏:‏ ولو أرسلنا‏.‏ وإنما قالا هكذا؛ لأن ‏"‏ لئن ‏"‏ هي ضد ‏"‏ لو ‏"‏، وذلك أن ‏"‏ لو ‏"‏ تطلب في جوابها المضيّ، والوقوع، و‏"‏ لئن ‏"‏ تطلب في جوابها الاستقبال‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ إن معنى ‏"‏ لئن ‏"‏ يخالف معنى لو، فلا تدخل إحداهما على الأخرى، فالمعنى‏:‏ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك‏.‏

قال سيبويه‏:‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً‏}‏ ليظللن‏.‏ انتهى‏.‏ وفي هذه الآية مبالغة عظيمة، وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وترويح خاطره، لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية، ولا يرجعون إلى الحق، وإن جاءهم بكل برهان فضلاً عن برهان واحد، وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم، أو لشبهة طرأت عليهم، حتى يوازنوا بين ما عندهم، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق، بل كان تركهم للحق تمرداً، وعناداً مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء، ومن كان هكذا، فهو لا ينتفع بالبرهان أبداً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ‏}‏ هذا الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي‏:‏ لا تتبع يا محمد قبلتهم، ويمكن أن يكون على ظاهره، دفعاً لأطماع أهل الكتاب، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ‏}‏ فيه إخبار بأن اليهود، والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم مختلفون في دينهم، حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ «وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى تستقبل مطلع الشمس»‏.‏ انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم‏}‏ إلى آخر الآية، فيه من التهديد العظيم، والزجر البليغ ما تقشعرّ له الجلود، وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء، والملة الشريفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون- وحاشاه- من الظالمين، فما ظنك بغيره من أمته، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام، وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية، ووسيلة طاغوتية، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم، أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة، أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب، كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والتمرة التمرة؛ وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشدّ على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين، ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك، والضدّ لما هنالك، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة، حتى يسلخوه من الدين، ويخرجوه منه، وهو يظنّ أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم، هذا إن كان في عداد المقصرين، ومن جملة الجاهلين، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق، والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم، وختم على قلبه، وصار نقمة على عباد الله، ومصيبة صبها الله على المقصرين؛ لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى حق، ولا يتبع إلا الصواب، فيضلون بضلاله، فيكون عليه إثمه، وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة‏.‏

نسأل الله اللطف، والسلامة، والهداية

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ‏}‏ قيل الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ يعرفون نبوّته‏.‏ روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم‏.‏ وقيل‏:‏ يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، بالطريق التي قدّمنا ذكرها، وبه قال جماعة من المفسرين، ورجح صاحب الكشاف الأوّل‏.‏ وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآيات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَيَكْتُمُونَ الحق‏}‏ هو عند أهل القول الأوّل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وعند أهل القول الثاني استقبال القبلة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ يحتمل أن يكون المراد به الحقّ الأوّل، ويحتمل أن يراد به جنس الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله‏:‏ ‏{‏من ربك‏}‏ أي الحق هو الذي من ربك لا من غيره‏.‏ وقرأ عليّ بن أبي طالب ‏{‏الحق‏}‏ بالنصب على أنه بدل من الأول، أو منصوب على الإغراء، أي‏:‏ الزم الحق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والامتراء‏:‏ الشك، نهاه الله سبحانه عن الشك في كونه الحق من ربه، أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم، وعلى الأول هو‏:‏ تعريض للأمة، أي لا يكن أحد من أمته من الممترين، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه‏.‏

وقد أخرج ابن ماجه عن البراء قال‏:‏ صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهراً، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقليب وجهه في السماء، وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة، فصعد جبريل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره، وهو يصعد بين السماء، والأرض ينظر ما يأتيه به، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء‏}‏ الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا جبريل كيف حلنا في صلاتنا إلى بيت المقدس‏؟‏»

فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم‏}‏‏.‏ وأخرجه الطبراني من حديث معاذ مختصراً لكنه قال‏:‏ سبعة عشر شهراً‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا‏}‏ قال‏:‏ قبلة إبراهيم نحو الميزاب‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن البراء في قوله‏:‏ ‏{‏فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام‏}‏ قال‏:‏ قبله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن عليّ مثله‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، والبيهقي عن ابن عباس؛ قال‏:‏ ‏{‏شَطْرَهُ‏}‏ نحوه‏.‏ وأخرج البيهقي، عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن أبي العالية قال‏:‏ ‏{‏شَطْرَ المسجد الحرام‏}‏ تلقاءه، وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ «البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب‏.‏ وأخرج البيهقي في سننه عنه، مرفوعاً قال‏:‏ البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها، ومغاربها من أمتي،» وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ قال‏:‏ أنزل ذلك في اليهود‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق‏}‏ قال‏:‏ يعني بذلك القبلة‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير عن أبي العالية نحوه‏.‏

وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ‏}‏ يقول‏:‏ ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ قال‏:‏ اليهود والنصارى‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَهُ‏}‏ أي قال‏:‏ يعرفون رسول الله في كتابهم‏:‏ ‏{‏كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَهُ‏}‏ أي‏:‏ يعرفون أن البيت الحرام هو‏:‏ القبلة‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ قال‏:‏ يكتمون محمداً، وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل‏.‏ وأخرج أبو داود، في ناسخه، وابن جرير، عن أبي العالية قال‏:‏ قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏ يقول‏:‏ لا تكوننّ في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك، وكانت قبلة الأنبياء من قبلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 152‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏148‏)‏ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏149‏)‏ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏150‏)‏ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏151‏)‏ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ‏(‏152‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلِكُلّ‏}‏ بحذف المضاف إليه لدلالة التنوين عليه‏:‏ أي‏:‏ لكل أهل دين وجهة، والوجهة فعلة من المواجهة، وفي معناها الجهة، والوجه، والمراد القبلة‏:‏ أي‏:‏ أنهم لا يتبعون قبلتك، وأنت لا تتبع قبلتهم ‏{‏وَلِكُلّ وِجْهَةٌ‏}‏ إما بحق، وإما بباطل، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ مُوَلّيهَا‏}‏ راجع إلى لفظ كل‏.‏ والهاء في قوله‏:‏ ‏{‏مُوَلّيهَا‏}‏ هي‏:‏ المفعول الأوّل، والمفعول الثاني محذوف أي‏:‏ موليها وجهه‏.‏ والمعنى‏:‏ أن لكل صاحب ملة قبلة صاحب القبلة موليها وجهه، أو لكل منكم يا أمة محمد قبلة يصلي إليها من شرق، أو غرب، أو جنوب، أو شمال إذا كان الخطاب للمسلمين، ويحتمل أن يكون الضمير لله سبحانه، وإن لم يجر له ذكر، إذ هو معلوم أن الله فاعل ذلك، والمعنى‏:‏ أن لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه‏.‏ وحكى الطبري أن قوماً قرءوا‏:‏ «ولكل وجهة» بالإضافة، ونسب هذه القراءة أبو عمرو الداني إلى ابن عباس‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ والمعنى‏:‏ وكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه‏.‏ انتهى‏.‏ وقرأ ابن عباس، وابن عامر‏:‏ «مولاها» على ما لم يسمّ فاعله‏.‏ قال الزجاج‏:‏ والضمير على هذه القراءة لواحد‏:‏ أي‏:‏ ولكل واحد من الناس قبلة الواحد مولاها‏:‏ أي‏:‏ مصروف إليها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ‏}‏ أي‏:‏ إلى الخيرات على الحذف، والإيصال‏:‏ أي‏:‏ بادروا إلى ما أمركم الله من استقبال البيت الحرام كما يفيده السياق، وإن كان ظاهره الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خير كما يفيده العموم المستفاد من تعريف الخيرات، والمراد من الاستباق إلى الاستقبال‏:‏ الاستباق إلى الصلاة في أول وقتها‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ * يَأْتِ بِكُمُ الله‏}‏ أي‏:‏ في أيّ‏:‏ جهة من الجهات المختلفة تكونوا يأت بكم الله للجزاء يوم القيامة، أو يجمعكم جميعاً، ويجعل صلاتكم في الجهات المختلفة كأنها إلى جهة واحدة، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ‏}‏ كرّر سبحانه هذا لتأكيد الأمر باستقبال الكعبة، وللاهتمام به، لأن موقع التحويل كان معتنى به في نفوسهم، وقيل وجه التكرير أن النسخ من مظانّ الفتنة، ومواطن الشبهة، فإذا سمعوه مرّة بعد أخرى ثبتوا، واندفع ما يختلج في صدورهم، وقيل إنه كرّر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل‏:‏ الأول ابتغاء مرضاته، والثانية جرى العادة الإلهية أن يولى كل أهل ملة، وصاحب دعوة جهة يستقلّ بها، والثالثة دفع حجج المخالفين، فقرن بكل علة معلولها، وقيل أراد بالأول‏:‏ ولّ وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها، ثم قال‏:‏ وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة، وغيرها، فولوا وجوهكم شطره، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ‏}‏ يعني وجوب الاستقبال في الأسفار، فكان هذا أمر بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ‏}‏ قيل معناه‏:‏ لئلا يكون لليهود عليكم حجة إلا للمعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه فعلى هذا المراد بالذين ظلموا‏:‏ المعاندون من أهل الكتاب، وقيل هم مشركو العرب، وحجتهم قولهم‏:‏ راجعت قبلتنا، وقيل معناه‏:‏ لئلا يكون للناس عليكم حجة لئلا يقولوا لكم قد أمرتم باستقبال الكعبة، ولستم ترونها‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ إنّ إلا ها هنا بمعنى الواو‏:‏ أي‏:‏ والذين ظلموا، فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر‏:‏

ما بالمدينة دار غير واحدة *** دار الخليفة إلا دار مروانا

كأنه قال‏:‏ إلا دار الخليفة ودار مروان، وأبطل الزجاج هذا القول، وقال‏:‏ إنه استثناء منقطع‏:‏ أي‏:‏ لكن الذين ظلموا منهم، فإنهم يحتجون، ومعناه إلا من ظلم باحتجاجه، فيما قد وضح له كما تقول مالك عليّ حجة إلا أن تظلمني‏:‏ أي‏:‏ مالك عليّ حجة البتة، ولكنك تظلمني، وسمي ظلمه حجة؛ لأن المحتجّ بها سماه حجة، وإن كانت داحضة‏.‏ وقال قطرب‏:‏ يجوز أن يكون المعنى‏:‏ لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، فالذين بدل من الكاف، والميم في عليكم‏.‏ ورجح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل، وقال‏:‏ نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في استقبالهم الكعبة، والمعنى‏:‏ لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا ما ولاهم، وقالوا‏:‏ إن محمداً تحير في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا أهدى منه‏.‏ وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن، أو من يهوديّ، أو منافق‏.‏ قال‏:‏ والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة، والمجادلة، وسماها تعالى حجة، وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم‏.‏ ورجح ابن عطية أن الاستثناء منقطع، كما قال الزجاج‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود، ثم استثنى كفار العرب كأنه قال‏:‏ لكن الذين ظلموا في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا كله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوْهُمْ‏}‏ يريد الناس‏:‏ أي‏:‏ لا تخافوا مطاعنهم، فإنها داحضة باطلة لا تضركم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ‏}‏ معطوف على‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولأن أتمّ قاله الأخفش، وقيل هو مقطوع عما قبله في موضع رفع بالابتداء، والخبر مضمر، والتقدير‏:‏ ولأتمّ نعمتي عليكم عرّفتكم قبلتي قاله الزجاج، وقيل معطوف على علة مقدرة كأنه قيل‏:‏ واخشوني لأوفقكم، ولأتمّ نعمتي عليكم‏.‏ وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل دخول الجنة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا‏}‏ الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف‏.‏ والمعنى‏:‏ ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل ما أرسلنا قاله الفراء، ورجحه ابن عطية‏.‏

وقيل‏:‏ الكاف في موضع نصب على الحال، والمعنى‏:‏ ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال، والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة‏.‏ وقيل معنى الكلام على التقديم والتأخير‏:‏ أي‏:‏ فاذكروني كما أرسلنا قاله الزجاج‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ‏}‏ أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ ومعنى‏:‏ الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، والمغفرة حكاه عنه القرطبي في تفسيره، وأخرجه عنه عبد بن حميد، وابن جرير، وقد روى نحوه مرفوعاً كما سيأتي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واشكروا لِي‏}‏ قال الفراء‏:‏ شكر لك وشكرت لك‏.‏ والشكر‏:‏ معرفة الإحسان، والتحدّث به، وأصله في اللغة‏:‏ الطهور‏.‏ وقد تقدّم الكلام فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكْفُرُونِ‏}‏ نهى، ولذلك حذفت نون الجماعة، وهذه الموجودة في الفعل هي‏:‏ نون المتكلم، وحذفت الياء؛ لأنها رأس آية، وإثباتها حسن في غير القرآن‏.‏ والكفر هنا‏:‏ ستر النعمة لا التكذيب، وقد تقدّم الكلام فيه‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا‏}‏ قال‏:‏ يعني بذلك أهل الأديان، يقول‏:‏ لكل قبلة يرضونها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في تفسير هذه الآية‏:‏ صلوا نحو بيت المقدس مرة، ونحو الكعبة مرة أخرى‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ‏}‏ يقول‏:‏ لا تغلبنّ على قبلتكم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ‏}‏ قال‏:‏ الأعمال الصالحة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ‏}‏ يقول‏:‏ فسارعوا في الخيرات‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ * يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا‏}‏ قال‏:‏ يوم القيامة‏.‏ وأخرج ابن جرير، من طريق السدّي، عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة قال‏:‏ لما صرف النبي صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة‏:‏ تحير على محمد دينه، فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم أهدى منه سبيلاً، ويوشك أن يدخل في دينكم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشونى‏}‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ‏}‏ قال‏:‏ يعني بذلك أهل الكتاب حين صرف نبي الله إلى الكعبة قالوا‏:‏ اشتاق الرجل إلى بيت أبيه، ودين قومه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد قال‏:‏ حجتهم قولهم قد أحبّ قبلتنا، وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة، ومجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ‏}‏ قال‏:‏ الذين ظلموا منهم مشركو قريش أنهم سيحتجون بذلك عليكم، واحتجوا على نبيّ الله بانصرافه إلى البيت الحرام، وقالوا‏:‏ سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، فأنزل الله في ذلك كله‏:‏

‏{‏تَكْفُرُونِ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 153‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ كما فعلت فاذكروني‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، والديلمي من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتي»‏.‏ وأخرج الديلمي، وابن عساكر مثله مرفوعاً من حديث أبي هند الداري وزاد‏:‏ «فمن ذكرني، وهو مطيع، فحق عليّ أن أذكره بمغفرتي، ومن ذكرني، وهو لي عاص، فحق عليّ أن أذكره بمقت»‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس‏:‏ يقول الله‏:‏ ذكرى لكم خير من ذكركم لي‏.‏ وقد ورد في فضل ذكر الله على الإطلاق، وفضل الشكر أحاديث كثيرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 157‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏153‏)‏ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏154‏)‏ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ‏(‏155‏)‏ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏156‏)‏ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

لما فرغ سبحانه من إرشاد عباده إلى ذكره، وشكره، عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة بالصبر، والصلاة، فإنّ من جمع بين ذكر الله، وشكره، واستعان بالصبر، والصلاة على تأدية ما أمر الله به، ودفع ما يرد عليه من المحن، فقد هُدِى إلى الصواب، ووُفِّق إلى الخير، وإن هذه المعية التي أوضحها الله بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله مَعَ الصابرين‏}‏ فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال، وإن كانت كالجبال‏.‏ وأموات، وأحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين، أي‏:‏ لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات، بل هم أحياء، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم، بعد سلب أرواحهم؛ لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر، وليسوا كذلك في الواقع، بل هم أحياء في البرزخ‏.‏ وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر، ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة، ودلت عليه الآيات القرآنية، ومثل هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏‏.‏

والبلاء أصله المحنة، ومعنى نبلوكم‏:‏ نمتحنكم لنختبركم، هل تصبرون على القضاء أم لا‏؟‏ وتنكير شيء للتقليل، أي‏:‏ بشيء قليل من هذه الأمور‏.‏ وقرأ الضحاك‏:‏ «بأشياء»‏.‏ والمراد بالخوف‏:‏ ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدوّ أو غيره، وبالجوع‏:‏ المجاعة التي تحصل عند الجدب، والقحط، وبنقص الأموال‏:‏ ما يحصل فيها بسبب الجوائج، وما أوجبه الله فيها من الزكاة، ونحوها‏.‏ وبنقص الأنفس‏:‏ الموت والقتل في الجهاد، وبنقص الثمرات‏:‏ ما يصيبها من الآفات، وهو من عطف الخاص على العام، لشمول الأموال للثمرات وغيرها، وقيل‏:‏ المراد بنقص الثمرات‏:‏ موت الأولاد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ الصابرين‏}‏ أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يقدر على التبشير‏.‏ وقد تقدّم معنى البشارة‏.‏ والصبر أصله الحبس، ووصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة؛ لأن ذلك تسليم ورضا‏.‏ والمصيبة واحدة المصائب، وهي‏:‏ النكبة التي يتأذّى بها الإنسان، وإن صغرت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون‏}‏ فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين، وعصمة للممتحنين، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بالبعث، والنشور‏.‏ ومعنى الصلوات هنا‏:‏ المغفرة، والثناء الحسن‏.‏ قاله الزجاج‏.‏ وعلى هذا، فذكر الرحمة القصد التأكيد‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ «الصلاة الرحمة، والتعطف، فوضعت موضع الرأفة، وجمع بينها، وبين الرحمة كقوله‏:‏ ‏{‏رأفة ورحمة‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 27‏]‏ ‏{‏رَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏

‏[‏التوبة‏:‏ 117، 128، النور‏:‏ 20، الحشر‏:‏ 20‏]‏ والمعنى‏:‏ عليهم رأفة بعد رأفة، ورحمة بعد رحمة «‏.‏ انتهى‏.‏ وقيل المراد بالرحمة‏:‏ كشف الكربة، وقضاء الحاجة‏.‏ و‏{‏المهتدون‏}‏ قد تقدّم معناه‏.‏ وإنما وصفوا هنا بذلك؛ لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع، والتسليم‏.‏

وأخرج الحاكم، والبيهقي في الدلائل، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ غشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها، حتى قاموا من عنده، وجللُوه ثوباً، وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر، والصلاة، فلبثوا ساعة، وهو في غشيته، ثم أفاق‏.‏ وأخرج ابن منده في المعرفة، عن ابن عباس قال‏:‏ قتل عمير بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ ‏{‏فِى سَبِيلِ الله‏}‏ في طاعة الله في قتال المشركين‏.‏ وقد وردت أحاديث أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من ثمار الجنة‏.‏ فمنها عن كعب بن مالك مرفوعاً عند أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه‏.‏ وروي أن أرواح الشهداء تكون على صور طيور بيض، كما أخرجه عبد الرزاق، عن قتادة قال‏:‏ بلغنا، فذكر ذلك‏.‏ وأخرجه عبد بن حميد، وابن جرير عنه أيضاً بنحوه، وروى أنها على صور طيور خضر، كما أخرجه ابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي العالية‏.‏ وأخرجه ابن أبي شيبة في البعث، والنشور عن كعب‏.‏ وأخرجه هناد بن السَرِيِّ عن هذيل‏.‏ وأخرجه عنه عبد الرزاق في المصنف عن عبد الله بن كعب بن مالك مرفوعاً، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عطاء في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مّنَ الخوف والجوع‏}‏ قال‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُم‏}‏ الآية، قال‏:‏ أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر، وبشرهم فقال‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ الصابرين‏}‏ وأخبر أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير‏:‏ الصلاة من الله، والرحمة، وتخفيف سبيل الهدى‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه «وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله‏:‏ ‏{‏وَنَقْصٍ مّن الثمرات‏}‏ قال‏:‏ يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا تمرة‏.‏ وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم، أن يقولوا عند المصيبة‏:‏ ‏{‏إنا لله، وإنا إليه راجعون‏}‏ «وقد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏158‏)‏‏}‏

‏{‏الصفا‏}‏ في اللغة‏:‏ الحجر الأملس، وهو هنا علم لجبل من جبال مكة معروف، وكذلك ‏{‏المروة‏}‏ عَلَمُ لجبل بمكة معروف، وأصلها في اللغة‏:‏ واحدة المروى، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين‏.‏ وقيل‏:‏ التي فيها صلابة، وقيل‏:‏ تعم الجميع‏.‏ قال أبو ذؤيب‏:‏

حَتَّى كأنِّي لِلْحَوادِثِ مَرْوَة *** بِصَفَا المُشَقَّر كُلَّ يوم تُقْرَعُ

وقيل‏:‏ إنها الحجارة البيض البراقة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها الحجارة السود‏.‏ والشعائر‏:‏ جمع شعيرة، وهي‏:‏ العلامة، أي‏:‏ من أعلام مناسكه، والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله إعلاماً للناس من الموقف، والسعي، والمنحر، ومنه‏:‏ إشعار الهدى، أي‏:‏ إعلامه بغرز حديدة في سنامه، ومنه قول الكميت‏:‏

نُقَتِّلُهُمْ جِيَلا فجيلاً تَرَاهُمُ *** شَعَائِر قُرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ

وحجّ البيت في اللغة‏:‏ قصده، ومنه قول الشاعر‏:‏

وأشْهَد مِنْ عوف حُلُولاً كَثِيرةً *** يَحجُّونَ سِبَّ الزِّبْرقَانِ المُزَعْفَرا

والسب‏:‏ العمامة‏:‏ وفي الشرع‏:‏ الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه‏.‏ والعمرة في اللغة‏:‏ الزيارة‏.‏ وفي الشرع‏:‏ الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة، والجناح أصله من الجنوح، وهو‏:‏ الميل، ومنه الجوانح لاعوجاجها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَطَّوَّفَ‏}‏ أصله يتطوف، فأدغم‏.‏ وقرئ‏:‏ «أن يطوف»، ورفع الجناح يدل على عدم الوجوب، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري‏.‏ وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة، أنه يقول‏:‏ إنه واجب، وليس بركن، وعلى تاركه دم‏.‏ وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس، وابن الزبير وأنس بن مالك، وابن سيرين، ومما يقوّي دلالة هذه الآية على عدم الوجوب قوله تعالى في آخر الآية‏:‏ ‏{‏وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ‏}‏ وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب، ونسك من جملة المناسك، واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها‏:‏ أرأيت قول الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ فما أرى على أحد جناحاً أن لا يطوّف بهما‏؟‏ فقالت عائشة‏:‏ بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوّلتها كانت‏:‏ فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها، وكان مَنْ أهلّ لها يتحرّج أن يطوّف بالصفا، والمروة في الجاهلية‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله‏}‏ الآية، قالت عائشة‏:‏ ثم قد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما‏.‏

وأخرج مسلم، وغيره عنها أنها قالت‏:‏ لعمري ما أتمّ الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة، ولا عمرته؛ لأن الله قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله‏}‏‏.‏ وأخرج الطبراني، عن ابن عباس قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏

‏"‏ إن الله كتب عليكم السعي، فاسعوا ‏"‏ وأخرج أحمد في مسنده، والشافعي، وابن سعد، وابن المنذر، وابن قانع، والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تُجْرَأة قالت‏:‏ «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا، والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره، وهو يقول‏:‏ ‏"‏ اسعوا، فإن الله عزّ وجلّ كتب عليكم السعي ‏"‏ وهو في مسند أحمد، من طريق شيخه عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عنها، ورواه من طريق أخرى عن عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة، عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها، فذكرته‏.‏ ويؤيد ذلك حديث‏:‏ ‏"‏ خذوا عني مناسككم ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 163‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏160‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏161‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏162‏)‏ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏163‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ‏}‏ إلى آخر الآية فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون، واختلفوا مَن المراد بذلك‏؟‏ فقيل أحبار اليهود، ورهبان النصارى، الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل كل من كتم الحق، وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود، والنصارى من الكتم، فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق‏.‏ وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره، فإن من لعنه الله، ولعنه كل من يتأتي منه اللعن من عباده، قد بلغ من الشقاوة، والخسران إلى الغاية التي لا تلحق، ولا يدرك كنهها‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ البينات والهدى‏}‏ دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك، كما قال أبو هريرة‏:‏ «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاءين‏:‏ أما أحدهما، فبثثته، وأما الآخر، فلو بثثته قطع هذا البلعوم» أخرجه البخاري‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا بيناه‏}‏ راجع إلى ما أنزلنا‏.‏ والكتاب اسم جنس، وتعريفه يفيد شموله لجميع الكتب‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به التوراة‏.‏ واللعن‏:‏ الإبعاد والطرد‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏اللاعنون‏}‏ الملائكة، والمؤمنون قاله، الزجاج وغيره، ورجحه ابن عطية‏.‏ وقيل‏:‏ كل من يتأتى منه اللعن، فيدخل في ذلك الجن؛ وقيل هم الحشرات والبهائم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ‏}‏ الخ، فيه استثناء التائبين، والمصلحين لما فسد من أعمالهم، والمبينين للناس ما بينه الله في كتبه، وعلى ألسن رسله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ هذه الجملة حالية، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن كافر معين؛ لأن حاله عند الوفاة لا يعلم، ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانهم؛ لأنه يعلم بالوحي ما لا نعلم، وقيل‏:‏ يجوز لعنه عملاً بظاهر الحال كما يجوز قتاله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله‏}‏ الخ، استدل به على جواز لعن الكفار على العموم‏.‏ قال القرطبي‏:‏ ولا خلاف في ذلك‏.‏ قال‏:‏ وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر؛ بل هو جزاء على الكفر، وإظهار قبح كفره، سواء كان الكافر عاقلاً، أو مجنوناً‏.‏ وقال قوم من السلف‏:‏ لا فائدة في لعن من جُنّ، أو مات منهم لا بطريق الجزاء، ولا بطريق الزجر‏.‏ قال‏:‏ ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله، والملائكة، والناس بلعنهم، لا على الأمر به‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق، لما روى‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتى بشارب خمر مراراً، فقال بعض من حضر‏:‏ لعنه الله ما أكثر ما يشربه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم» والحديث في الصحيحين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ قيل‏:‏ هذا يوم القيامة، وأما في الدنيا ففي الناس المسلم، والكافر، ومن يعلم بالعاصي، ومعصيته ومن لا يعلم، فلا يتأتى اللعن له من جميع الناس‏.‏ وقيل‏:‏ في الدنيا، والمراد أنه يلعنه غالب الناس، أو كل من علم بمعصيته منهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في النار‏.‏ وقيل‏:‏ في اللعنة‏.‏ والإنظار‏:‏ الإمهال، وقيل‏:‏ معنى لا ينظرون‏:‏ لا ينظر الله إليهم، فهو من النظر‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الانتظار، أي‏:‏ لا ينتظرون ليعتذروا، وقد تقدّم تفسير‏:‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏ فيه الإرشاد إلى التوحيد، وقطع علائق الشرك، والإشارة إلى أن أوّل ما يجب بيانه، ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس؛ قال‏:‏ سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة، وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل، وخارجة ابن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج، نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبروهم، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا‏}‏ الآية‏.‏ وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل الكتاب لكتمهم نبوّة نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن البراء بن عازب؛ قال‏:‏ كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ «إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه، فتسمعه كل دابة غير الثقلين، فتلعنه كل دابة سمعت صوته، فذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون‏}‏ يعني دوابّ الأرض» وأخرج عبد بن حميد، عن عطاء قال‏:‏ الجنّ، والإنس، وكل دابة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن مجاهد قال‏:‏ إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم‏.‏ وأخرج عنه عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان قال في تفسير الآية‏:‏ إن دوابّ الأرض، والعقارب، والخنافس يقولون‏:‏ إنما مُنِعْنا القطْرَ بذنوبهم، فيلعنونهم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عكرمة نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن أبي جعفر قال‏:‏ يلعنهم كل شيء حتى الخنفساء‏.‏ وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم، والوعيد لفاعله‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ‏}‏ قال‏:‏ أصلحوا ما بينهم، وبين الله‏.‏ وبينوا الذي جاءهم من الله، ولم يكتموه، ولم يجحدوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏أَتُوبُ عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ أتجاوز عنهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال‏:‏ إن الكافر يوقف يوم القيامة، فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال‏:‏ يعني بالناس أجمعين‏:‏ المؤمنين‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ يقول‏:‏ خالدين في جهنم في اللعنة‏.‏ وقال في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لا ينظرون، فيعتذرون‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ قال‏:‏ لا يؤخرون‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والدارمي، وأبو داود، والترمذي وصححه، وابن ماجه، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏ «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين ‏{‏وإلهكم إله واحد لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم‏}‏ و‏{‏الم * الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم‏}‏» ‏[‏آل عمران‏:‏ 1 2‏]‏‏.‏ وأخرج الديلمي، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ليس شيء أشدّ على مردة الجن من هؤلاء الآيات التي في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏» الآيتين‏.‏